سليمة*
رضوان آدم
الهزّات المتكررة في
الغيوم لا تعني أنها تتقهقر. تتحرك في جماعات، ولا تترك غيمة صغيرة إلا ودعّمتها
بواحدة أكبر. معدل التقاطر الدقيق لا يسمح لسليمة بتصويب طوبها إلى أعلى. لن تتمكن
من إلحاق الأذى بالسماء، طالما لم تتفرق الغيوم المُستفزة. أكثر من ساعتين، على
هذا المنوال.
ترتبك سليمة، لكن
مخزون رغبتها الجامحة يُعّدل الموقف. لا تنزل على الدرج، ولا تهتم بوجع ركبتيها،
ولا قدميها. سطح بيتها هو أعلى نقطة عرفتها القرية، وربما كل القرى المجاورة.
بشكل متقطع، تنظر إلى
السماء. لا تراها جيدًا، فتبكي من جذور عينيها. انقطع طمثها لعام كامل، وعاد
نزيفًا في الرحم قبل يومين. لن تتخلى عن هذه الفرصة مهما عانت. أصبحت حسّاسة جدًا
في الشهور الأخيرة. لم يعد يعرفها زوجها، عبد الباسط. لم يكن يشاركها أبدًا الرأي
بخصوص معارك السطح. يفهم ما تعانيه، ويراقبها عندما تختلي بنفسها قبل الفجر. يدعو
لها بالسكينة، ويقول لها إن جمال نعمة كاملة، لكنها لا تسمع.
تراقب سليمة اللحظة
التي تنسحب فيها الغيوم. تُجهز عشرين طوبة، وعددًا من الحجارة والحصى المُدبب. لا
تصرخ في سماء، تتوارى عنها. لا تريد أن يسمعها أحد في القرية، خصوصًا شقيقتها
الصغرى التي رُزقت بمولودها الثاني. أبلغت سليمة أنها لن تشاركها أية معارك. لا
تريد أن تُغضب السماء أكثر، فتخطف ولديها. تغتاظ سليمة من سنيّة، ولا تُعلمها ما
يجري. تبدّل ثدي سنية بشكل غريب. عندما تتحسس انتفاخاته، يتوجع كل صدرها. لا
يفارقها ضيق التنفس وتعرق اليدين أبدًا.
اندهشت سليمة من
سنيّة. جهزّت لها مقدارًا من الطوب. قبل أن تصعد لساحة السطح، طرقت بابها وطلبت
منها المساندة. لم تشتم رائحة جُبن في كلام شقيقتها، حتى فاجأتها سنيّة. عاتبتها
الأخت الكبرى. ذكرتها بمعارك أمهما، وطنية. أنجبتهما في سن الأربعين والسادسة
والأربعين على التوالي. خاضت أمهما معارك نفس طويل مع السماء.
كانت العاقر وطنية،
مسخرة القرية قبل أن تلدهما. جُرحت في مناطق عدة من جسدها جرّاء سقوط الطوب فوقها.
في يوم مُشمس تأذت جبهتها. تهللّ وجهها وظل ينزف حتى غابت عن الوعي، وسقطت على
الأرض. اعتقدت وطنية أنها هزمت السماء هزيمة ساحقة.
بعد عام، تكتئب بشدة.
خدعتها السماء، ولم تهدِها ذكرًا. قدمت تنازلاً بسيطًا. ولدت وطنية أنثى. رمتها
إلى جوارها كأنها لا شيء. كأنها أرادت أن
تخفف من صدمة أمها، لم تصرخ أبدًا. استغربت وطنية، وأسمتها سليمة. كان وجهها
مستديرًا كرغيف متوهج يضحك.
بعد خمس سنوات، شاركت
سليمة، أمها، آخر وأغرب المعارك. تعَرْقلت الطفلة مرات عدة على الدرج الضيق. كأنها
امرأة بالغة، نقلت طوبًا من الشارع إلى سطح البيت. نهم وطنية لقتال السماء شلّ
حركة سليمة بعد ساعتين من الإمداد. حاربت وطنية، السماء بجنون. لم تتلفت إلى سليمة
مرّة. كانت ثائرة لأن طمثها يودعها خلال أيام.
عندما تشعر سليمة أن
الطوب ينفد من تحت قدمي وطنية، تملأ حِجرها بشحنة، وتُفرغها بالقرب منها ثم تركض
نحو مخبأها. كانت تراقب أمها من زاوية بعيدة. حتى لا تنجرح، تتوارى سليمة تحت قفص
خشبي كبير.
تعرف الابنة الوحيدة أن نزول الطوب فوق رأس
أمها، فأل ذكر. وإذا سقطت طوبة فوق الجبهة أو الكتفين، تلد وطنية أنثى أخرى. تكتم
سليمة أنفاسها لأن السماء لا تطاوع أمها. رغم خِفة وطنية، إلا أن الطوب ضرب كتفها
الأيسر ونزل مرتين فوق صدرها. لا تريد وطنية أن تُصدق أن السماء تُخّيب أملها
مجددًا.
لا تتلفت لسليمة التي
بدأت تخاف من غضب أمها. تُعيد وطنية ضرب السماء بكل الطوب. بهوس، تتحرك يمينًا
ويسارًا، وتتقلب في كل اتجاه، لكن حتّى الحصى تفادى ملامسة رأسها. تسقط وطنية من
التعب. تأذى كتفها ثم احتضنت سليمة، وبكيا. بعد أن كبرت بطنها، أوصتها وطنية أن
تبدأ، من الآن، جمع قطع أقمشة قديمة، لتفصيل جلابيب سنيّة. تبكي سنية، ولا تُغير
رأيها، فتودعها سليمة، زاعقة:" محارباكي ليوم الدين يا بت أمي وأبوي".
عندما يظهر طرف من السماء،
ويختفي بسرعة، تصرخ سليمة ثم تسكت. تُصّوب حصى خفيفًا وبكثرة. كتلة الغيم
المتباطئة، تُسرع الخطى كأنها تتفادى ضربات سليمة. لا يلامس الحصى جسد سليمة. لا
تأكل إلا طقّة واحدة في اليوم حتى تكون أسرع من الجاذبية. إذا استمر الحال كذلك،
فإنها لن تلد لا ذكرًا ولا أنثى. لم تجهز طعام العشاء، وتخشى أن يعاتبها الزوج
والابن. يعودان من الحقل بعد غروب الشمس.
تُريد أن تُخاوي ابنها
جمال قبل فوات الأوان. مرت عشر سنوات على ولادته بعد معركة ضارية مع السماء. تبلع
ريقها، وتفكر في الانسحاب حتى ينقشع الغيم، لكنها تتراجع. سمعت صراخًا، ناحية
الحقول. عندما يتوقف الصراخ، يرتفع صوت طرقات شديدة على باب البيت. لا تعبأ سليمة.
ظنّت أن الصبية يلعبون، ويريدون جمال معهم.
عندما كانت سليمة
تُعارك السماء لانتزاع جمال لم تكن الغيوم تعرف طريقها إلى سماء القرية. تبدلت
الأحوال في السنوات الأخيرة. سافر شباب القرية إلى الخارج، وعادوا لبناء بيوت
بالأسمنت. قمائن الطوب زرعت الدخان في كل اتجاه. ترفض سليمة الطوب الأحمر. طلبت من
زوجها التمهل حتى الصيف المقبل. حفظت نقاط الدفاع والهجوم فوق السطح. لن تتآلف مع
سطح آخر. لن تشعر بالثبات فوق أي سطح آخر قبل انتهاء معركة كامل. أسمته مبكرًا،
طبقًا لمعركته، كاملة المشقة. رغم أن رأسها لم ينزف بعد، إلا أنها رسمت، في
خيالها، ملامح ابنها الثاني.
معركة جمال كانت
الأسهل. لم تستغرق ساعة، وربع كمية الطوب والحصى. نزف رأس سليمة ثلاث مرات. تعكّزت
سليمة على أختها حتى نزلت بدمائها على الدرج. كانت سنيّة تتفرج على شقيقتها
المُنتفضة. بقطعة قماش ساخنة، مسحت جروح سليمة لكن الأخيرة رفضت محو البشارة. صرخت
في وجه سنيّة، فتجمدت، وتراجعت. كان مُتاحًا لزوجها، أن يفهم أن امرأته جُنّت.
كانت مجرد خرقة لحم. تهذي بكلام غير مفهوم، وتستنشق دماء جمال. لم يقترب منها عبد
الباسط، وفرّ من البيت بحثًا عن طبيب الوحدة الصحية. أرجعته سنية بعد أن جهّز
بردعة الحمار.
ضحكت سليمة بصوت
مرتفع. سخرت من عبد الباسط، فخرج غاضبًا. لا تعرف سليمة، حتى الآن، أين قضى ليلته
هذه. ربما بات في مسجد القرية. لطخت الدماء رقبة سليمة وصدرها. بقيت سنيّة معها
حتى الفجر. عندما ارتفعت درجة حرارة سليمة، ودخلت في نوبة تخريف، مسحت سنيّة
جروحها بماء وملح، وقبلت جبهتها.
لمّا أفاقت سليمة في
العاشرة صباحًا، طيّبت خاطر شقيقتها. انفرجت أسارير سنيّة. "مبروك يا بهيمة.
ألف بركة لأنك بخير. البيت كان هيقع امبارح يا خيتي". تقهقه سليمة قبل
أن يخطفها النوم لعشر ساعات متواصلة.
تتمنى سليمة لو أنها
ولدت بهيمة، ولا كل الحُمى التي تطرق رأسها ومفاصلها. تمنت لو كانت بقرة. لن تشعر،
ولن تضطر لغربلة الغيوم. لم تصعد بقرة، من قبل، درجًا مُرهقًا للتحديق في سماء
مراوغة. لا تدخل البهائم معارك كهذه أبدًا. كل أبقار القرية، وضعت مواليدها، من
دون قابلة. أربعون يومًا، ويلتهم المولود حِزمة البرسيم، فلا يُرهق ثدي أمه ثانية،
ولا يلكم صدرها في عز النوم.
تزداد ضربات قلب
سليمة. ترتفع وتنخفض بسرعة. تشعر أن قلبها سيتوقف فوق السطح خلال ثوان. تقرفص من
التعب. تحاول التنفس، والتفكير بتعقل. تعتقد أن ظروف المعركة ليست في صالحها. تمنح
نفسها فرصة أخيرة. بعد أن تلتقط أنفاسها، تغازلها نفس الرغبة الجامحة. تفرك عرق
يديها، وتشجع نفسها. تشعر أنها لم تركز في استغلال فرص التصويب، بما فيه الكفاية.
تُسعل بعدما استنشقت هواءً، ظنّت أنه مخلوط بدخان قمينة. تعرف أن صدرها هو الذي
يغلي. عندما يتسلق الصوت القديم حائط البيت، متجهًا ناحية السطح، تغلق سليمة
آذانها، بينما ينبض قلبها بقلق مجهول.
بعد أن جمعت سليمة
شتاتها، عضّت لسانها. الزفير اللاإرادي، مطّ وجهها. كان مشدودًا في خط مستقيم.
لامت نفسها لأنها فوّتت، قبل ثوان، قطعة صافية من السماء، كانت تغطيها غيمة هاربة
بسرعة. تُضّيع سليمة فرصة تالية: انطلقت غيمة أكبر، فكشفت بقعة كبيرة من السماء.
لم تلحقها لأنها كانت أسرع من الأولى. أمسكت سليمة طوبتين تحسبًا لأي حركة جديدة.
عندما ترفع ذراعها ناحية غيمة بادئة في التحرك، تتوقف الغيمة، كأنها شاهدت الطوبة
العريضة. تستغرب سليمة، تكتيك الغيوم. الدقائق السابقة نبهتها إلى ضرورة التصويب
بسرعة، في الخطوط المكشوفة من الغيوم.
تعيد سليمة نشر أكوام
الطوب والحصى. توزعها على كل ركن فوق السطح، وتحتفظ بطوبتين في يدها اليسرى،
وواحدة في يدها اليمنى. لم يخيب ظنها طويلاً. لاحت بعض النقاط الزرقاء في الأفق.
وقفت الأربعينية المتوترة فوق نقطة، تسمح بنزول الطوب عموديًا. يخفق قلبها. تشعر
أن لحظة كامل أوشكت. بينما تفرز فتحات جسدها عرق الضغط العصبي، تغلق سليمة عينيها
وتفتحهما. داخت قليلاً. شعرت أنها قد تسقط أرضًا في أي لحظة. تقاوم، لأن لا أحد
يساندها. تتحكم في عضلات وجهها التي ترتعش من تلقاء نفسها. تغلق فمها، فيتوقف
الاهتزاز.
ترتاح دقيقتين.
ساعتان، ولا جُرح في الرأس، ولا سماء في الأفق. يجب أن يكون هناك دم. يجب أن يكون
غزيرًا. أي كدمات أو سجحات في الصدر أو الساق أو الكتف، لا تعني سوى بدء معركة
جديدة في يوم الغد. تبكي وتضحك. تركز النظر على بطنها. ستحكي لكامل المعركة من
أولها. عندما يكبر، ستقبل وجنتيه، وتضمه إلى حِضنها، بطول المعركة الساخنة. يجب أن
يعرف التضحيات التي بذلتها أمه. سيضحك عبد الباسط عليها، ويخرج مع جمال للحقل أو
المسجد.
لم يعرف جمال أية
تفاصيل عن معركته. في عامه الثالث، دخلت أمه في نوبة حزن شديد عقب وفاة وطنية. لم
تُخبره خالته التي لم تخلع الأسود حتى اليوم. كانت معركته يسيرة: سماء صافية،
وهواء منعش، وأم في الثامنة والثلاثين.
لكل معركة مع السماء
علامات. علّمتها وطنية أن طول المعركة يعني أن السماء غاضبة من شيء. تساقط الطوب
بعيدًا عن الجسد رسالة من سماء تماطل في الاستجابة. توقفت غالبية نسوة القرية عن
ضرب السماء بالطوب بعدما حاولت إحداهن اللحاق بطوبة رأسية، فسقطا معًا من فوق
البيت. تُضيف رقبة سليمة علامة جديدة. قبل أن تصعد إلى السطح، تفاجأت بخطوط حمراء
تصبغ رقبتها. لونها يشبه لون الدم المتجلط. ضربت فوق صدرها لكنها أصرت على الدخول
في المعركة. لن تنهزم إلا جثة هامدة فوق السطح. رغم أن الغيوم، علامة شؤم حاسمة،
إلا أن سليمة تقنع نفسها أن كامل يستحق كل الصبر والألم.
عندما تقف على قدميها،
تتوهم أن الغيوم تتحرك. ترمي سليمة عشر طوبات بطريقة هيستيرية، فتقع بعيدًا عن سطح
البيت. تشعر أنها ارتكبت خطأ، وأصابت أحد المارة. لم تعرف إذا كان الصراخ الذي يزيد
في الشارع لمصاب أو اثنين. تتوقف عن متابعة الضرب، وتخطف النظر إلى أسفل. أخفت
نفسها في قلب السطح. رأت حشدًا من ناس القرية، يُحدق فيها. رأت سنيّة وعبد الباسط.
شعرت أنهما يراقبانها منذ مدة. انتفخت عضلة قلب سليمة. أنفاسها تنحبس الآن، لأن
عروق رقبتها تتضخم أيضًا.
ترتجف كل حواس سليمة،
عندما تسمع دبدبات فوق الدرج. صوت الأقدام وإيقاعه مألوفان لسليمة. لم تنجح في بلع
ريقها لأنها رأت سنية تصرخ بأعلى صوتها، وتركض نحوها. يقف عبد الباسط على بعد
مترين منهما. كان متماسكًا لكن دموعه هطلت عندما جلس عند طرف السطح. لا تفقد سليمة
حماسها للعراك مع السماء حتى بعد أن فجرّت سنيّة خبر جمال. أفلتت سليمة من
التخشُب، وركلت شقيقتها الصغرى في بطنها قبل أن تهاجم الغيوم، التي تهرب، بكل
الطوب والحصى.
عندما يتقاطع صراخ
سنيّة مع عويل النسوة،أسفل البيت، يتكوم عبد الباسط فوق الدرج. بينما تتوارى آخر
غيمة، تظهر السماء جليّة، فتُجنّ سليمة أكثر، ولا تتوقف عن الركض حول السطح،
كبهيمة هائجة.
* إحدى قصص " جبل الحلب " الصادرة عن دار روافد للنشر - 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق